كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من أكرم فتيان مكة نسبًا , وأعزهم أصلاً , وقد كان سعداً حين أشرق نور النبوة في سماء مكة في ريعان الشباب , وقد كان كثير البر بوالديه , شديد الحب لأمه , فأسرع إلي موكب النور , حتى كان ثالث ثلاثة أسلموا من الرجال , وكان لإسلامه قصة نترك للبطل توضيحها وبيانها للشباب الأمة .
قال سعد : رأيت في المنام قبل أن أسلم بثلاث ليال كأني غارق في ظلمات بعضها فوق بعض وبينما كنت أتخبط في لججها - لجة هي أعمق الماء – إذ أضاء لي قمر فرأيت نفراً قد سبقوني إلي ذلك القمر رأيت زيد بن حارثة وعلي بن أبي طالب و أبو بكر الصديق رضي الله عنهما . فقلت لهم : منذ متى أنتم هاهنا ؟ . فقالوا : الساعة .
فلما طلع النهار بلغني أن رسول الله صلي الله عليه وسلم يدعو إلي الإسلام مستخفيًا فعلمت أن الله أراد بي خيراً , وشاء أن يخرجني من الظلمات إلي النور , فمضيت إليه مسرعاً حتى لاقيته في شعب جياد – أحد طرق مكة – وقد صلي العصر , فسألته عن الإسلام فشرح لي , فأسلمت , فما تقدمني أحد سوى هؤلاء النفر الذين رأيتهم في الحلم . كانت فرحة رسول الله صلي الله عليه وسلم بإسلام سعد كبير .
لكن إسلام سعد بن أبي وقاص لم يمرَ سهلاً هينًا , وإنما عرض الفتى المؤمن لتجربة من أقسى التجارب قسوة وأعنفها عنفًا , حتى بلغ من قسوتها وعنفها أن أنزل الله سبحانه في شأنها قرآنا . فلنترك لسعد الكلام ليقص علينا خبر هذه التجربة القاسية .
قال سعد : ما إن سمعت أمي بخر إسلامي حتى ثارت ثائرتها , وكنت فتى برًا بها محبًا لها , فأقبلت علي تقول : يا سعد ما هذا الدين الذي اعتنقته فصرفك عن دين أمك وأبيك , والله لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت , فيتفطر فؤادك حزنًا عليَ , ويأكلك الندم علي فعلتك التي فعلت , وتعيرك الناس بها أبد الدهر !.
فقلت : لا تفعلي يا أماه , فأنا لا أدع ديني لأيً شيء .
لكنها مضت في وعيدها , فاجتنبت الطعام والشراب , ومكثت أيامَا علي ذلك لا تأكل ولا تشرب , فهزل جسمها ووهن عظمها وخارت قواها . فجعلت آتيها ساعة بعد ساعة أسألها أن تتبلغ بشيء من الطعام أو قليل من الماء , فتأبي علي ذلك أشد الإباء , وتقسم ألا تأكل أو تشرب حتى تموت أو أدع ديني , وأرجع لعبادة اللات والعزى .
عند ذلك قلت لها : يا أماه إني والله لشديد حبي لك , لكن حبي لله ورسوله لأشد , والله يا أماه لو كان لك ألف نفس فخرجت منك نفسًا بعد نفس ما تركت ديني هذا لشيء . فلما رأت الجد مني أذعنت للأمر , وأكلت وشربت علي كره منها , فأنزل الله فينا قوله عز وجل : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) } . سورة لقمان
{ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }